ذرائع الريب والشك .. د. نضال القطامين

أسفر إضراب المعلمين الذي أقرأ الان أنه يمكن أن يُعلن عن انتهائه في الساعات القادمة، عن درس وطني جليل، تمثل في بروز غياب كبير للأدوار التي يجب على مؤسسات الدولة الإعلامية القيام بها، وضعف بين جلي اعترى الأداء الرسمي، كسبب للفراغ الذي أحدثه إحجام وتغييب النخب التكنوقراط عن التماس مع الناس وتنفيذ حوار حقيقي حيال قضاياهم ومطالبهم.

وتبعاُ لذلك، فقد استحكمت في الناس أسباب الريب وإِسْتَشْرَت ذرائع الشك، وقد اغتنموا منابر التواصل الإلكترونية التي هيأها فضاء الشبكة العالمية الرحيب، فصار سهلا وسريعا نقل الإشاعة كما لو كانت حقيقة، ووجدت قصص الفساد وتغوّل الواسطات والتعيينات وارتفاع البطالة ومخاوف مستقبل الاقتصاد، واغتيال الشخصيات، مساحات مقبولة على الصفحات وفي العقول، فامتلأت قوارير الصفحات بماء المنشورات الأُجَاج .

يكاد امتطاء هذه المنابر على صهوات المطالبة بالحقوق، حراك المعلمين نموذجا، يشكّل حالة فريدة من الوعي الجمعي للناس ويقارب النهوض بواجب ملء الفراغ الذي أحدثه غياب الأحزاب عن تمثيل هموم الناس، بل ويؤسس لما يمكن أن يكون رافعة لحياة سياسية أخرى عمادها تمثيل حقيقي للشارع.

اتفق تماما مع ما كتبه معالي الصديق الوفي نوفان العجارمة من أن “الشعوب أصبحت تتحرك خارج الأطر التقليدية ولم تعد بحاجة الى احزاب او برامج، بل إلى أدوات تمكنها من التعبير عن إرادتها، وقد وجدت في أدوات التواصل الاجتماعي ضالتها … فتغيير الادوات و المفاهيم اصبح ضرورة ..!!”

نحن معنيون بشكل كبير بدراسة الحالة الوطنية التي رسمها التضامن الشعبي مع مطالب المعلمين. لقد وجد الناس في حراكهم المسؤول المشروع رمزا لحالة القلق التي تشكّلت في غياب الأحزاب والبرلمانات الممثلة وكنتيجة لتغييب القيادات، ورأوا في مطالبهم نوافذ لاعتدال ما شوهته البيرقراطية في الاداء الحكومي ، وقد اعترف رئيس الحكومة بأن نظام الخدمة المدنية بحاجة لجراحة سريعة تعالج التشوّه الذي يعتريه.

لا أحد في مكونات المجتمع المختلفة يفتقر للخطاب ولإصدار النظريات والمبادرات. هذا متاح عبر قنوات ومنابر متعددة ومتنوعة، وهو أسهل ما يكون.

إن ما نعوزه هو وعاء راسخ يحتوي الحراكات المختلفة. كان يمكن لتنفيذ الأوراق النقاشية وقد وضعت قواعد لعمل سياسي حداثي متقدم، أن تنهض بهذا الواجب، لكنها مغيّبة عن فكر السلطات الثلاث وعن تفاصيل عملها، فيما أفضى هذا الغياب لغياب آخر لآليات التنفيذ الفعلي، أبعدنا عن الإحتكام لمنطق دولة القانون والمؤسسات، وصار بيننا وبين ترجمة الفكرة فجوات واسعة، حتى إذا لم ير الناس منبرا سياسيا يحتكمون فيه إلى المنطق والحقوق، سارع كلٌ إلى وسيلته الأثيرة في تبليغ رسالته، لتُفتتح لاحقاً، الآفاق واسعة للعمل الفردي المهلك، وللتنائي عن قاعدة التأسيس لعمل وطني منتظم، يحقق مبادئنا في الوحدة والحرية.

يمعن عجز البرلمان والحكومات عن التماس التام مع حاجات الناس واستمرار الازمات دون وعاء يحتوي أسبابها، يمعن في اختبار استعدادنا لدولة قانون ومؤسسات، دولة تتعدد فيها أحزاب تمثل الناس وترفع برامجها بين أيديهم، برامج توصلها فيما بعد لتشكيل حكومة لا يملك معارضوها ولا مؤيدوها، سوى تأييد أو رفض لبرامجها ووسائلها، كما يفعل كل العالم، دون الحاجة لصراعات تتصدر خطابها مفردات التحالفات الطبقية، ولا تفضي سوى لمزيد من التشرذم والفرقة والخلاف