مهننة التعليم : الرؤية  والواقع … أ.د.عدنان الجادري

 مهننة التعليم : الرؤية  والواقع

Professionalization of Teaching: Vision and Reality    

أ.د.عدنان الجادري 

كلية العلوم التربوية والنفسية                                                             

ونحن في منتصف العقد الثاني من الألفية الثالثة نواجه كغيرنا من شعوب الدول النامية  العديد من التحديات التي فرضتها المتغيرات  والمستجدات على الساحة الدولية، والتي يمكن اختزالها في العولمة والتقانة المتقدمة والانفتاح الإعلامي والانفجار المعرفي والمعلوماتي والتكتلات الاقتصادية والثقافية. وهذه المستجدات بما تتضمنه من إيجابيات وسلبيات لا يمكن لدولنا تجنبها، بل ينبغي التعامل معها والتكيف لها والتركيز على الميادين التي يمكن ان تلعب دوراً هاما في مواجهتها.

ومن أجل مواجهة هذا الواقع لابد من إيلاء اهتمام كبير ومتزايد لقطاع التربية والتعليم لأن يلعب دوراً حاسماَ في مواجهة هذه التحديات وصياغة المستقبل لشعوبنا، لإن المستقبل بكل أبعاده وتحدياته يعتمد على بناء المواطن الصالح والمنتج، من خلال إعداده وتأهيله بكفاءة وفاعلية تمكنه من التفاعل الواعي مع التقدم العلمي والتقني الذي يشهده عالمنا المعاصر والتي تؤثر بشكل مباشر على حياة مجتمعاتنا.

ولهذا ظهرت في السنوات الأخيرة نداءاتٌ وصيحاتٌ من قبل السياسيين والتربويين وصانعي القرارات لإصلاح قطاع التعليم وتطوير إمكاناته البشرية والفنية والمادية، وأن يشمل هذا الإصلاح كل ما يتعلق بالعملية التعليمية التعلمية من مناهج دراسية وطرائق واستراتيجيات تدريسية وبيئة مدرسية وقبل ذلك المعلم بوصفه العنصر الأساسي والفاعل والحلقة الأقوى في العملية التربوية، فالمعلم هو قائدُ العملية التربوية ورائدُها، وأنه من أهم عناصر التعليم التي لايمكن ان تؤدي أغراضَها إذا لم يتوفر المعلمُ الصالح الذي ينفثُ فيها من روحه لتصبح ذات أثر وقيمة. وإنَّ مهنة المعلم هي مهنةٌ جديرةٌ بالتقدير والإجلال فكيف لا يكون ذلك وصدق رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) عندما يقول إنما بُعِثتُ معلما، لأن المعلم يبني عقولاً مفكرة ومبدعة كما أنه يؤدي مهنة الأنبياء والرسل . فإن الأنبياء والرسل لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكنهم ورَّثوا العلم، ولذلك فأن للمعلم الجزاء العظيم عند الله عز وجل بأدائه هذه المهنة كما جاء في الذكر الحكيم من سورة المجادلة.

“يرفع اللهُ الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلمَ درجات، والله بما تعملون خبير”.

وقول النبي المصطفى ( محمد ) صلى الله عليه وسلم :

“من سلك طريقاً يلتمسُ فيه عِلماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة”.

اختلفت النظرة عبر العصور للأدوار التي يؤديها المعلم، فقديماً كان يُنظر للمعلم على أنه مُلقّنٌ وناقلٌ للمعرفة، وما على الطلاب الذين يُعلمهم إلا حفظ المعارف والمعلومات ، أما في التربية الحديثة فأصبح ينظر للمعلم إضافة لما ذكر بأنه الموجه والمخطط والميسر للعملية التعليمية وعليه تقوم فكرة  التعليم ذاتها، فهو صانعُ أجيال وناشرُ عِلم ورائدُ فكرٍ ومُؤسسُ نهضة ، وإذا كانت الأمم تقاس برجالها فالمعلم هو باني الرجال وصانع المستقبل ، مع أنه إلى يومنا هذا لم يأخذ هذا المعلم حقه الذي يظهر مكانته وأهميته في حياة الأمة .

وأضحى الأهتمام بمعلم المستقبل قضية جدلية لا تخص شريحة المختصين والمهتمين والعاملين في الحقل التربوي فحسب ، وأنما تتعدى ذلك لتصبح قضية تهم كل شرائح المجتمع وبالأخص القادة المسؤولون عن رسم السياسات ووضع التشريعات التي تهدف الى النهوض بالواقع التربوي و التنموي والحضاري .

ولكن من خلال استقراء الواقع التربوي وتحليله في معظم النظم التربويه نلاحظ بأن التعليم لم يأخذ شكل المهنه مضموناً وممارسة ولا يوجد أعترافاً به كمهنة التي تكسب الذين ينتمون اليها صفة المهنية كالمحامي والطبيب والمهندس ….. بل أصبح كل من يمتلك قدراً من المعرفة ولو بشكل محدود يتمكن من ممارسته – كما هو موجود في دولنا العربية – ويمكن أن يؤديه سواءً من خلال أعداده مسبقاً أو بدون أعداد لذلك . وكان لهذه الرؤية آثاراً سلبية على المتعلم ومخرجات العملية التعليمية التعلمية . في حين إن ليس هناك  شك يثير الأختلاف بان التعليم هو مهنة بل ومن أهم المهن وأخطرها وذلك بفعل تأثيرها وآثارها على مستقبل الأجيال والبناء الحضاري للدول .ولهذا أخذت ترتفع صيحات ومناداة من التربويين والسياسيين وذوي الأختصاص بضرورة الاهتمام بالمعلم والتعليم بأعتبارهما الركيزة الأساسية لنجاح النظام التربوي والتوجة نحو مهننة التعليم لغرض أصلاحه وتطويره . لأن اي اصلاح هادف لمستقبل الأمة ينطلق من ما يتركه المعلم من بصمات على سلوكيات المتعلمين وعقولهم وتفكيرهم . وعلى الرغم من أن عملية التعليم قد وصفت بأنها” أم المهن” إلا أنه في واقع دولنا العربية لم يتم الاعتراف بها كمهنة بالرغم من تداولها  اصطلاحياً على المستوى المجتمعي والرسمي. لأن إطلاق هذا المصطلح يفترض أن يعبر في  مضمونه عن ضوابط  وقواعد وأخلاقيات عمل تسنُ له التراخيص لممارسته، بناء على برامج إعداد وتأهيل متخصصة تتيح للمعلم ممارسة التعليم والارتقاء المهني بما ينعكس على تحسين العملية التربوية ويواكب التطورات المعرفية المستمرة. ويُراعى فيها أن يكون التعليم مهنة وليس وظيفة متخصصة،، و تتجسد أهميته في تغيير النظرة السائدة بأن التعليم مجرد وظيفة يؤديها كل من لا وظيفة له ،  وهذ التوجه في إعداد المعلمين أُطلق عليه مسمى ” مهننة التعليم“، وأصبحت قضية الارتقاء بالتعليم من خلال تغييرمفهومه من الوظيفة إلى المهنة يمثل موقع الصدارة في الاصلاح التربوي والتعليمي وهذا ما بينته الكثير من الدراسات العلمية بالرغم من الجدل المستمر بين أصحاب القرار من جهة والتربويين من جهة أخرى .

ومهننة التعليم بشكل مبسط تعني اعتبار التعليم مهنة كغيرها من المهن تتطلب الأعتراف بها  وتوفير لها الشروط والمعايير والضوابط الحاكمة لممارستها في أطار ميثاق عمل اخلاقي وقيمي وبما تنسجم مع سلوكياتها وفلسفتها.

وايضاً هناك ضرورة  لتوضيح مفهوم المهنة بشكل أدق في ضوء تمييزها عن مفهوم الحرفة التي غالباَ يعبر عنها بالاعمال والممارسات التي يتعلمها الفرد من خلال الممارسة أو تقليد الآخرين وبطريقة المحاولة والخطا . ويمكن لأي شخص أن  يؤديها دون الحاجة الى أعداد مسبق ، أما المهنة فتعني الأعمال والممارسات التي تحتاج الى اعداد علمي مسبق يضمن توفير بنية معرفية ومهارية ذات أبعاد نظرية وتطبيقية وتتوفر لها المصادر والمراجع التي يمكن الرجوع لها لتأديتها بشكل ناجح وفعال . وتاسيساً عللى ذلك ليس كل عمل او ممارسة يؤديه الفرد هو مهنة ، لان المهنة تشتمل على معايير لضبط أداءها و ميثاق عمل اخلاقي يحدد سلوكها . ومهننة العمل أخذ يعبر عنها بعملية اجتماعية وتتسم بالديناميكية وتتاثر بعوامل الزمن والثقافة والنظم الأجتماعية السائدة .

و للمهنة سمات رئيسية تتمثل في الآتي :

1 –  لكل مهنة اهداف تستمدها من أهداف مجتمعية وتترجم بشكل وظائف لها مهام ينبغي تحقيقها .

2 – تستند المهنة لممارستها على قاعدة علمية ذات بعدين نظري وتطبيقي .

3-  يقترن تطور المهنة بالتطور المهني المستمر و يكون لكل مهنة سلم للرتب او المستويات المهنية .

4 – للمهنة رابطة أو جمعية مهنية تهتم بقضاياها ومعالجة مشكلاتها وتطوير ممارساتها .

وبناءً على ذلك ، فان التعليم يستمد مهنيته من ما تم ذكره ،  وما لذلك من تأثيرات ايجابية على القيم المجتمعية وأداء العملية التعليمية برمتها . حيث إن جودة البرامج التعليمية في اي نظام تربوي لا يمكن تحقيقها إذا لم يتوفرلها المعلمين الأكفياء والمعدون أعداداً مهنياً خلال مرحلة الدراسة الأولية واثناء العمل لأداء الأعمال والمهام المطلوبة . وهذا التوجه ينسجم مع الأتجاهات العالمية والتطلعات التربوية المعاصرة التي تهدف الى تطويروأصلاح العملية التربوية .