في هذا المنعرج من الدروب، وفي خضم هذه الترديات والمخاطر التي تعيشها منطقتنا والعديد من مناطق العالم، وفي هذا الزمن الكريه الذي يُظِلُّ الكثير من الكيانات السياسية، عادة ماتبرز هنا أو هناك دول ترفض الخنوع وتطرد جيوش الخضوع، وتذهب بكل اقتدار نحو التمسك بكرامتها واعتزازها بذاتها وسيادتها، مستلهمة ذاك التاريخ الممتد حتى مرتفعات السداد والأصالة والتوجه نحو المرابع المتقدمة من القمم الشاهدة على الأصوليّة والاقتدار.
عندما تداعت الأحداث الرديئة علينا، سقطت حزمة من الأوطان تحت طائلة القهر والانهزام والانحدار، والتفّت حول عنقها أطْوال كبيرة من الحبال التي غالباً ما تشهد لفظ الانفاس الأخيرة. في هذه المرحلة برزت دولتنا الأردنية تحمل كل أنواع معدات الدفاع عن المكتسبات ومقارعة المعتدين على الأرض وعلى العرض، ليس عند علامات حدودها، بل وذهبت تدافع عن كرامة العروبة والإسلام، وتعدت ذلك الى المشاركة في الدفاع عن الإنسانيّة، حاديها ذلك الموروث غير المسبوق الممتد من غار حراء إلى غار ثور إلى بطاح المدينة المنورة وإلى رحاب بيت الله الحرام.
الأردن لم يغادر دائرة الوعي لمفهوم ‘السيادة’ لحظة من لحظات حياته. وقد كتب الله له منذ ولادته أن يكون شريفاً مكافحاً صادقاً مع نفسه ومع قومه وامته، لذلك قدّم مئات الشهداء دفاعاً عن البلاد المقدّسة، وضحى بكل مصلحة فردية في سبيل تحقيق مصلحة جَمْعية، والقى وراء ظهره بكل المكتسبات والفوائد الخاصة وسار في درب الكفاح، فارسل بكثير من فلذات كبده في ساحات الوغي.
وبالرغم من كل ما تعرّض له، فقد ظل الأردن، يملك من القوّة التي مكّنته من الإصرار على أولوياته وعلى ابجديات العروبة والإسلام والايمان بحق البشرية في العيش الكريم. وبالرغم، أيضاً، من شح الموارد وقلة ما في اليد، فقد ظلت يده تطعم الجائع، وظلت يمناه تغيث الملهوف، وتعين الكلَّ، وتستر عوارت الناس المحتاجين.
لذلك، فإن هذه الصرخة المدوّية التي رافقت إعلان سيدنا قراره بإنهاء ملحقي الباقورة والغمر، قد جاءت تفسيراً عمليّاً لمعنى السيادة الكاملة على الأرض وعلى دواخل الحدود؛ برّها وبحرها وجوِّها. لقد فهمنا السيادة على أصولها، وعلى أنه قبل ذلك، لم يترك سيدنا محفلاً إقليميّاً أم عالمياً، عربياً أم إسلامياً، إلا وجعل محور حديثة حول الحقوق العربية والإسلامية المهدورة والمسلوبة، مطالباً أن يكون على رأس الفرقة الذاهبة إلى ساحات المنازلة لتحصيل هذه الحقوق وإعادتها إلى أصحابها. وهنا لا ننسى أن سيدنا قد تربى في كنف رجل مثّل كل معاني الرجولة، وقارع الطغاة بما يملك وبما يؤمن بأنه يملك، صَدَق الله فصدقه الله وَعْدَه.
الباقورة باكورة الأولويات ولو أنها جاءت على رأسها، ألا أنها مثّلت مضاء الإرادة. والغمر قد غمرت كل نفس أردنية بالعزّة والرجولة والكرامة والاقتدار والفخر.
شكراً سيدنا وقد علمتنا كيف يكون الوارث لسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، لم يمنعك لا ضيق ولا حاجة في سبيل تحقيق الهدف.
حفظك الله إذ حفظت لنا كرامتنا وسيادتنا ورجولتنا وعزّنا، وبارك الله فيك وفي أجدادك وفي نسلك أنه السميع المجيب.