منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، تطمح أوساط واسعة في إسرائيل إلى فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، ذلك أن المطالبة بدولة فلسطينية سوف تضعف كثيرا طالما ظل جزءا الجسد السياسي الفلسطيني منفصلين عن بعضهما.
غير أن جولة التصعيد الأخيرة في القطاع أدت إلى تعرية السياسة الإسرائيلية وبالذات سياسة (نتنياهو) تجاه القطاع المحاصر منذ 12 عاما. فالفهم الإسرائيلي للتعامل مع “القطاع” يتدحرج بين تقدم عبر الوساطة المصرية في مفاوضات التهدئة بين إسرائيل وحماس، وبين تصعيد إسرائيلي دموي. ولقد أثارت نتائج الجولة الأخيرة، رغم قصرها على مدار يومين فقط، سخط العديدين في إسرائيل، حيث اعتبرتها انتصارا لحماس، ترتب عليها استقالة وزير الحرب (أفيغدور ليبرمان) احتجاجا على وقف إطلاق النار، متهما حكومة (نتنياهو) بالخضوع لحماس، في حين قال 74% من الإسرائيليين إنهم غير راضين عن أداء (نتنياهو) خلال الجولة التصعيدية الأخيرة في “القطاع”، وذلك في استطلاع للرأي أجرته “شركة الأخبار الإسرائيلية” (القناة الثانية سابقًا).
في بداية الشهر الحالي، أصدر “معهد دراسات الأمن القومي” في إسرائيل تقريرا تحدث عن ثلاثة سيناريوهات لتعامل إسرائيل مع القطاع: الأول، يقترح حرباً واسعة لإنهاء حكم حماس. والثاني، يعتمد تكتيك “الإضعاف المتدرج” للحركة والتفكيك البطيء لسيطرتها ونفوذها. والثالث، يقوم على الاعتراف بالحركة والتعامل مع سلطتها بوصفها واقعاً شرعيا. هذا المعهد، الأهم في إسرائيل، خلص إلى أن “حكومة نتنياهو اعتمدت سيناريو رابعا بين الثاني والثالث: الاعتراف بسلطة الأمر الواقع في غزة، والتعامل معها وفقاً لضوابط ومحاذير محددة، تزامناً مع المضي في سياسة الإضعاف المتدرج لنفوذ الحركة وقدراتها”. وفعلا، يفضل (نتنياهو) سياسة إنهاك حماس، ولا يمانع من “تنسيق أمني” يحقق “عودة الهدوء مقابل الغذاء والكهرباء”. وفي هذا، كتب (ميرون رابوبورت) يقول: “بالنسبة لنتنياهو، يشكل الحفاظ على حكم حماس في غزة رصيداً استراتيجياً من الدرجة الأولى. وفي رأيه، ستكون أي عملية يُرجح أن تؤدي إلى إقامة دولة مستقلة في غزة، منفصلة عن الضفة، نعمة حقيقية. فإذا أصبحت غزة “إمارة” خاصة بها، مثلما يقول الناس في اليمين، فإن ذلك سيوجه ضربة قاضية إلى ادعاءات محمود عباس، أو أي وريث محتمل له، بأنه يمثل الشعب الفلسطيني كله في المفاوضات لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة مستقلة”. ويضيف: “يفسر هذا التفكير اهتمام نتنياهو المفاجئ بـ”إعادة تأهيل” غزة كما يفسر السبب في تراجع نتنياهو مرة أخرى عن احتلال غزة”.
الآن، أصبح واضحا أن (نتنياهو) لا يريد إعادة احتلال غزة، فهو غير معني بتحمل مسؤولية مليوني فلسطيني إضافيين، وتبعيات (سياسية/ إعلامية) إضافية لوضع إسرائيل في ظل تعاظم استمرار المقاطعة الدولية ونشاط الحركة العالمية لمقاطعة “إسرائيل” (BDS)، وما سيترتب من دماء على هكذا مغامرة، صحيح أنها قد تنهي حكم “حماس” – لكنها بالمقابل ستعيد القطاع إلى حضن السلطة الفلسطينية وتعزز مكانتها وهو الأمر الذي لا يرغب به (نتنياهو). وقد أوعز الأخير إلى وزراء حكومته التزام الصمت إزاء الوضع الأمني مع غزة، واحترام قرار المجلس الوزاري المصغر “الكابينت” بوقف إطلاق النار وبالخصوص في أعقاب تصريحات متطرفة مزايدة أطلقها وزراء في حكومته بشأن غزة.
من جهته، يعتقد المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” (عاموس هرئيل) أن “فخ غزة، الذي يلاحق نتنياهو منذ فترة طويلة وتسبب الآن بتفكيك مبكر لائتلافه، من شأنه أن يزيد خطورة الوضع. الفخ الذي وقع فيه نتنياهو يزداد خطورة لأن ضبط النفس الذي كان يسمح به لنفسه، بصعوبة، عندما كانت حكومته مستقرة نسبيا، بات أصعب للتطبيق في فترة المنافسة في الانتخابات، بينما يطوقه منافسوه، من اليمين واليسار، ويوجهون إليه انتقادات. وتسوية كاملة مع حماس سيصفها معارضوه أنها استسلام آخر للإرهاب. واستمرار الوضع القائم يعني هجمات صاروخية، بحجج متنوعة، مرة كل بضعة أسابيع، وفيما صورة الهلع والغضب في بلدات غلاف غزة تلاحقه طوال المعركة الانتخابية، بينما نتنياهو يتحفظ من حرب مع حماس، خشية أن تطول، وتسبب خسائر بشرية ولن تحقق أهدافها المعلنة”.
(نتنياهو) في مأزق: ففي ضوء شواهد متزايدة، من المهم جداً بالنسبة له أن يبقي على حماس في السلطة في غزة. ومن ناحية أخرى، طالما ظلت حماس تحكم غزة، لن يكون قادراً على منح إحساس بالأمن لمستعمرات/ “مستوطنات” غلاف غزة، لذا سيبقى التعامل مع غزة يتدحرج بين هدنة وتصعيد. وعليه، فإن ما يطلق عليه سيناريو “إدارة الأزمة” القائم حالياً، مناسب (لنتنياهو) أكثر من أي بديل آخر، والأمر كذلك بالنسبة لحماس. وفي هذا السياق، وفي مقال مشترك، كتب (كيم ليفي) و(اودي ديكل) يقولان: “عمليا، إسرائيل وحماس في شرك مشابه، من جهة هما غير معنيتين بجولة قتالية تجبي منهما أثمانا وتعيدهما إلى نقطة البدء، ولكنهما لا تريدان أيضا السماح للطرف الآخر بتحقيق انجازات واتخاذ صورة من يدير مفاوضات مع العدو”.
مدونة اسعد عبد الرحمن