سؤال صار يتكرر يوميا في السنوات الأخيرة، وتسمعه من الجميع، وفي كل مكان، ونحن تحديداً المشتغلون بالإعلام نسمعه أكثر من غيرنا، وغالباً بصيغة تحد واستنكار أو استفزاز، وهو السؤال عن “دور المثقف العربي فيما يحدث”!
يستفزني السؤال حين لا ينتبه السائل الى أزمة “التعريف” في سؤاله؛ حيث من هو “المثقف العربي” المعنيّ بالسؤال ؟
فقد اختلط الأمر منذ عقود طوال على الناس، بين تعريف المثقف والمبدع، حتى صار كل صحفي أو كاتب قصة أو شاعر مسؤولا أمام الناس عن دور “المثقفين العرب”، ومحاسباً أمام الجمهور عن اجابته.
وأنا هنا لا أقلّل من قيمة المبدع، لكن ثقافة الإبداع ليست هي نفسها ثقافة الفكر، والدور المنوط بالمثقف، وتعريف المثقف العضوي كما اختطه “غرامشي” لم يتطرق للكتابة والفن والإبداع، ولم يتعارض مع مدرسة “الفن لأجل الفن” التي جاءت لاحقاً وبتردد، ثم تقدمت بخطوات أجرأ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتراجع اليسار في العالم.
ثمة في الحياة وظيفة وثمة دور، والمثقف المفكر هو صاحب دور لكنَّه صاحب مهمة أيضا، أو وظيفة، هي وضع المجتمع على سكة الحديد التي يجب أن يكون عليها، يضع النظرية ثم يمضي، ولا يحاسب لاحقاً على فشل تطبيقها، ذلك أن ثمة ما اتفق على تسميته بـ “الظروف الموضوعية” المطلوبة لانضاج أية نظرية، فوضع “السيف في موضع الندى مُضرٌّ كوضع الندى في موضع السيف” كما قال الشاعر العربي القديم.
أما من هو المثقف، الذي يُسأل عن دوره، فهو حتماً ليس الصحفي ولا الشاعر ولا المسرحي، فهؤلاء ليس منوطاً بهم أية مهمة مباشرة، بل دور ابداعي، والفارق هنا أن التغيير الذي يصنعه الإبداع في المجتمعات وفي ثقافتها هو تغيير غير مباشر، تغيير تراكمي، في الوعي الجمالي، في طرق التفكير، في المقدس، في المحرم، في السلوك، في تطور الذائقة، في المحاكمات ، في المنطق، في منظومة القيم، الى آخر ذلك. وهو أثر بطيء وغير متعجّل، حيث تنمو الأمم وتتطور بالتزامن مع تطور إبداعها وتفوقه.
أما المفكر، المثقف المنوط به التغيير، كمهمة، ووظيفة، فهو ليس أي شخص موهوب لغوياً ومحظوظ بجريدة أو اثنتين تنشران له نصوصه او قصصه، فمن الإجحاف ان نداهم هذا المبدع حيث لقيناه بالسؤال عن “دور المثقف”، وكأننا نخطط للإيقاع به في فخّ، وعدد المفكرين قليل جداً بالمناسبة، والذين يمكن وصفهم بالمفكرين في هذا الزمان لم يصل عددهم لعدد الدول العربية مجتمعةً !
فليس كل من أصدر روايتين أو اكمل دراساته العليا عن مفكر ما، أو درس تاريخ الفكر، صار مفكراً، فالتفكير لأمة ليس أمراً سهلاً، والتفكير لأمة كالأمة العربية تتناوشها الأديان والمذاهب والطوائف والملل والبلدان ليس أمراً يسيراً، لكن المحتوم أن المثقف أو المفكر لا يملك جيوشاً لتحريكها، ودوره ليس منظوراً ولا محسوساً باليد، بل هو تغيير تراكمي لا ينفع مراقبته وتصيّده، ولا يليق الاستخفاف به أو التقليل منه.
كما أن الأهم عدم الخلط بين ثقافة الإبداع وثقافة الفكر، مثلما خلطنا طويلاً بين السياسي والوطني. ومثلما اختلط الأمر زمان على الجارات فوصفن كل من “فكّ الحرف” أو حمل جريدة بأنه “واحد مثقَّف”!