قبل أكثر من مئة عام وعام، ركبت على أكتافنا، ولّفت عراقيبها على أعناقنا، دول عظمى، جُلّها إنْ لم يكن كلّها، لم يعد كذلك. وبدأت هذه الدول (المستعمِرَة) تبيعنا في أسواق النخّاسة: الدولة بدينار، والزّق بدينارين!!. وبدأنا نحن نصطفّ في خطوط مستقيمة لنُعْرَضَ على الذي يدفع أكثر! فقدنا الإرادة، وفقدنا الكرامة، وفقدنا القدرة على اتخاذ قرارنا، وفقدنا الاستطاعة على تقرير مصير ذواتنا. باعنا من لا يملك إلى من لا حق له فينا، كل ذلك، ونحن راضون بالخضوع، بعد أنْ لم يعد تاريخنا يشفع لنا، وبعد أن لم يعد ماضينا، الذي أوقد أجدادنا شموعه بدمائهم الزكيّة، يريد أن نكون ابناءه وأحفاده، ولذلك أنكَرَنَا وأدار لنا ظهره متأففاً ومتعالياً عن حالة النسب التي تربطنا به، رافضاً أن يكون أصلاً لنا أو جدّاً لنا بعد أنْ «سوّدنا وجهه»، وخنّاه في صحة نسبنا إليه.
في اليوم الثاني من تشرين الثاني عام 1917، أرسل وزير خارجية المملكة المتحدة، آرثر جيمس بلفور، رسالة إلى اللورد ليونيل والتر دي روتشيلد يؤكد فيها أن حكومة بلاده تقرر (بعين العطف بل قُلْ بانتفاء الضمير، وبالظلم والجور) إقامة مقام (وطن) قومي في فلسطين للشعب اليهودي، غير دارٍ أنّ كل وعد هو باطل إذا كان صادراً عمّن لا يملك، فكيف إذا كان الموعود لا يستحق. وماذا نقول إذا علمنا أنّ لهذا «المُهْدى» أصحاباً ومُلاّكاً، وأن كل ما كان يسكنه من اليهود لا يتجاوز خمسة بالمئة، رغم كل الدفوعات والمغريات التي كانت تقدمها دول الاستقواء العالمي. وظل الأمر كذلك حتى صدر الوعد بإقامة الكيان المسخ.
سنقف هنا عن الحديث عن مساقات الوقائع المحيطة بوعد بلفور الأوّل، ثم ننصرف لتناول القول حول وعود بلفور التي تلت والتي نعيش بعضها إلى اليوم، بعد أن أدركنا أن بلفور لا يزال حيّاً يرزق.
في بداية الأزمة الليبية عام 2011، أعطت الأمم المتحدة ومجلس الأمن وقبلهما الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي بل وجامعة الدول العربية، ليبيا كمقاطعة لساركوزي وزمرته ليقرروا ما يريدون حول هذه البلد الذي عومل وكأنه أرض خلاء لا يملكها أحد. وقبلها كانت العراق التي قرر سيد البيت الأبيض بوش أن أرض الرافدين هي ولاية من ولاياته، له الحق في التصرف بها كيف يشاء، وهذا ما كان.
وفي عام 2011 كان السيناريو ذاته يتجدد في سوريا حيث دفع الغرب بكل قُطّاع الطرق الذين عاشوا على نهش لحوم الجيف عنده، مقرراً أن سوريا يجب أن تسقط، وأن تُدمّر، وأن يحكمها كل شذاذ الآفاق ما عدا أهلها. وفي ذات المسار كانت تونس ومصر واليمن، كلها مطامع للعصابات التي تقوم على إدارة المجتمع الدولي.
والآن نأتي إلى القول الفصل، بالله عليكم يا عقلاء العرب، ويا ساستها، ويا من تدّعون الوعي بالعزة، والفهم، والاقتدار، والفزعة، والثأر للكرامات، بالله عليكم ماذا عساكم تقولون لقادة العالم الأقوياء اليوم وهم يُصْدِرون كل ساعة وعداً جديداً، وكلها أكثر إجراماً من وعد بلفور.
ترمب يبيع سوريا لأردوغان الذي بدوره يبيعها لجنوده سامحاً لهم باستباحتها. وترمب يدخل العراق ويعيّد مع جنوده في بغداد دون إذن من ولاة الأمر فيها، وحتى دون علمهم، وكأنها «مال سائب» لا والي له، وتدخل دبابات تركيا أرض سوريا وأرض العراق دون أن يرف لها جفن، وحتى دون أن تحمل وعداً من أحد، وذلك بعد أن صار كل هواة السياسة يُصْدِرون وعوداً لهذا وذاك ولذواتهم، دون خجل أو وجل. والغريب في الأمر أنّ كل البضاعة المطروحة في الأسواق هي بضاعة إما عربية وإما إسلاميّة!!.
متى تقوم الساعة، يا رب، حتى تُجري جرد حساب لكل السارقين المارقين، وتُجري حساب كل المتخاذلين الذين جعلونا نقول بملء أفواهنا: «إن بلفور لا يزال حيّاً يُرْزق؛ وإن الذين ماتوا هم نحن العرب».
الراي