يشهد عالمنا المعاصر ومنذ سنوات ليست قليلة تحديات عديدة من اهمها التقدم التكنولوجي والانفتاح الحضاري وتحرير التجارة الدولية والدخول في عصر العولمة والاقتصاد المعرفي اضافة الى التحولات على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي اثرت بشكل مباشر على مجمل حياة المجتمعات وبنية المؤسسات الانتاجية والادارية والخدمية في كافة الدول بغض النظر عن مستوى تقدمها وتطورها. وكان لهذه التغيرات تأثيرات على أنساق القيم والعلاقات المجتمعية الى المستوى الذي أخذ يعبر عن العصر الذي نعيشه بأنه “عالم اللاثوابت” و”عالم متغير” يختلف في شكله ومضمونه عن العقود السابقة.
ولعل من أبرز الاهتمامات التي أحدثتها هذه التغيرات والتحديات والتوجهات السياسية والاقتصادية الجديدة هو التوجه الكبير نحو الاهتمام بالعنصر البشري باعتباره الأداة المحركة لعجلة التطور والحجر الاساس الذي تستند عليه الادارة بعملياتها ووظائفها المختلفة من أجل تحقيق أهدافها واستراتيجياتها، ولهذا نتج عن ذلك فكر اداري جديد يوجه ممارساته نحو الاستثمار في العنصر البشري باعتباره طاقة فكرية ومقدرة ذهنية ومصدر للمعرفة والابتكار ومتمكن من توظيف الموارد المادية والطبيعة المتاحة بالشكل الذي يحقق أهداف الادارة وتنمية المجتمع. وإن العنصر البشري اذا ما احسن اختياره واعداده ووظف للمهام التي تتلاءم مع قدراته وامكاناته وتوجهاته لا يتطلب متابعته ورقابته والتدخل في اداءه ، وبما ان العنصر البشري يعد عنصراً أساسياً في العملية الادارية، لذا بات على المؤسسات أن تعمل بشكل متواصل على تطوير قدراته ومعارفه بما يتماشى مع عالم التحديات اذا ما ارادت تحقيق السبق والميزة التنافسية .
وإن من الأهداف الاساسية التي يسعى الى تحقيقها العمل الاداري الناجح هو تعزيز الالتزام ومعالجة التسيب الوظيفي لدى العاملين بعملهم واهتمامهم بالمؤسسة التي يعملون بها بالإضافة الى تقوية دافعيتهم ورغبتهم في بذل الجهد المناط بهم بغية نجاحها، وقد وصفت مجلة The Conference Board في نشرتها التي صدرت عام 2006 في الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان “التزام الموظف: نظرة عامة وتأثيراته” أن الشعور الوجداني المتعمق لدى الموظفين تجاه المؤسسة التي يعملون بها يدفعهم الى بذل اقصى ما عندهم من جهود لتطوير المؤسسة ، وبموجب ذلك قسم الموظفين الى ثلاثة فئات:
1-الملتزمون: هم الموظفون الذين يتمتعون بالحماسة تجاه عملهم الى جانب تمتعهم بالولاء والالتزام والدافعية والرغبة في تقديم أكثر ما هو مناط بهم من مهام.
2-ضعيفي الالتزام: هم الموظفون الذين يعملون في المؤسسة دون اعتبار لإنجاز المهام المناطة بهم ودون الأخذ في الاعتبار العمل ضمن أوقات الدوام المطلوبة منهم .وحجم الدافع عند هؤلاء الموظفين للنجاح يعد أقل من الذي يتوفر عند نظرائهم الملتزمين، ولديهم الاستعداد للتغيب عن المؤسسة وتركها.
3-غير الملتزمين بفاعلية: هم الموظفون الذين يفتقرون إلى أي صلة وجدانية تربطهم بعملهم وهم غير مبالين بمستقبل المؤسسة. ويتمتع هؤلاء الموظفين بدرجة عالية من الرضا على وضعهم وسلوكياتهم .
وهنا يجدر الأشارة الى إن الحديث أعلاه قد أظهر مصلح الالتزام الوظيفي بدلاً من التسيب الوظيفي وذلك لأن مصطلح التسيب الوظيفي عموماً نادر التناول في أدبيات العلوم الإدارية والسلوكية والتنظيمية وقد يرجع ذلك الى أن هذا المصطلح يعبر عن سلوك سلبي للأفراد أو العاملين ومن ثم يؤدي الى عدم أمكانية المؤسسة من تحقيق أهدافها وأكثر ما يتم ملاحظته على مستوى الممارسات الإدارية في والمؤسسات العاملة في بعض الدول النامية . و لكن الذي يرادف مصطلح التسيب الوظيفي هو مصطلح الالتزام التنظيمي الذي يختلف عن التسيب الوظيفي من حيث المضمون والأهداف والنتائج التي يفضي اليه من تعزيز للثقة التنظيمية للفرد وتحقيق اهداف المؤسسة . ويعد مصطلح الالتزام التنظيمي أكثر شيوعاً واستخداما على المستوى النظري ومستوى الممارسة ، ولا تخلو معظم أدبيات العلوم الإدارية من استخدام هذا المصطلح الذي يمثل سلوكاً إيجابيا فمن خلاله يمكن رفع كفاءة وفاعلية المؤسسة وتحقيق أهدافها ، على عكس التسيب الوظيفي الذي يجعل العاملين بلا قيمة ويندفعون نحو مصالحهم الذاتية بعيدا عن المصلحة العامة للمنظمة وينعكس ذلك سلباً على ولائهم والتزامهم للمنظمة مما يؤدي الى تدهورها وضياعها .
ولكن في تراثنا العربي والاسلامي تناول مفهوم التسبب لغوياً وإجرائيا ويمكن الإشارة في ذلك الى ما أوردته المعاجم اللغوية بأن التسيب جاء من الفعل (ساب) والذي اشتق منه معاني أخرى ومنها السيّب الذي يعني العطاء وايضاً مجرى الماء وجمعه سيوب، ويسيب الماء اذا جرى، ويطلق على الشخص الذي ليس له أسرة معروفة أو أهل (السائب)، وايضاً أطلق العرب في عصر الجاهلية مصطلح السائبة على الناقة التي كانت تسيب لنذر او نحوه، فإذا ولدت الناقة عشرة ابطن (حيران) و كلهن إناث فإنها تساب اي تترك حرة في الصحراء فلا تركب ولا يشرب لبنها الا من ولدها ولا تذبح حتى تموت. ولهذا فإن التسيب لغوياً يعني ترك الشيء يسير على رسله وبانه السلوك الذي لا تحكمه ضوابط وتحركه موجهات.
أما عندما يقترن مصطلح التسيب لغوياً بمصطلح الوظيفة ليعبر عنه “بالتسيب الوظيفي” فإنه اجرائياً يختلف في مضمونه عن المعنى اللغوي للتسيب، ويعني السلوك او الأداء الوظيفي الذي ينتهجه الموظف خارج اطار وضوابط ولوائح وقوانين العمل في المؤسسة بما ينعكس سلبياً على انتاجية العمل والعجز عن تحقيق الأهداف التي أنشأت من اجلها. إن التسيب الوظيفي يعد من السلوكيات والممارسات المنحرفة من وجهة نظر الشرائع والعقائد السماوية، فيعدها الدين الاسلامي الحنيف حراماً وسلوكه يتنافى مع قيم العمل وتعزيز رقابة الضمير قبل التمعن في التعليمات واللوائح والقوانين التي تضمنها المؤسسات كمناهج لعملها، وقد بين لنا الدين الاسلامي بأن العمل هو لون من ألوان العبادة، وتجسد ذلك في قول الله سبحانه وتعالى :(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وأيضاً (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها) وفي قول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم “إن الله يحب اذا عمل أحدكم عملاً ان يتقنه”. فكل سلوك وعمل يؤديه الانسان يخضع لرقابة الله سبحانه وتعالى. وهذا يتضح جلياً في حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام عن الاحسان، “الاحسان ان تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
من هنا فإن اهتمام الاسلام بالعمل وأخلاقياته وقيمه اهتماماً بالغاً، وتربط الشريعة الاسلامية بين العمل والايمان، والعمل يعني كل ما يؤديه الانسان من صالح الاعمال في حياته ويقصد من ورائها وجه الله ورضاه ونفع الناس ودفع الاذى عنهم وكل عمل يشتمل على ذلك فإنه يندرج تحت مفهوم العبادة والتقوى.. وان اضاعة الانسان لوقت العمل أو بعضاً منه وينصرف دون ان يحقق أي شيء مطلوب منه، فإنه يكون قد اغتصب أموالاً ليست من حقه، وكذلك اضاعة مصالح وحقوق الآخرين، وهذا ما أكدته الاحكام الشرعية في الاسلام، وفي كل الشرائع السماوية وحتى القوانين والأحكام الوضعية، بأن الاجر الذي يحصل عليه الموظف لا بد أن يقابله عمل يؤديه بالكامل وهذا يدخل تحت القاعدة العامة، وهي أكل أموال الناس بالباطل، في قوله سبحانه وتعالى (يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل).
وعموماً بناءً على هذه القيم الأخلاقية للعمل والتي أوردتها الاحكام السماوية والقوانين الوضعية بصدد ظاهرة التسيب التي تمثل احدى ظواهر الفساد التي تنخر في جسد البناء المؤسسي والتي تنشأ وتنمو في بيئة تنظيمية من خلال تفاعل عدة عوامل تؤدي إلى انتشارها لتصبح آفة تحول دون امكانية تحقيق المؤسسة لأهدافها اضافة الى شيوع سلوكيات وظيفية سلبية تتمثل بعدم شعور الموظفين بالمسؤولية والتراخي في اداء المهام والواجبات واهمال العمل والانتهازية واستغلال الوظيفة بطريقة تسبب اضرار بالمصلحة العامة.
ومن مظاهر التسيب الوظيفي الأكثر شيوعاً وانتشاراً في المؤسسات هو الغياب وعدم الالتزام بأوقات الدوام الرسمي، والذي اخذ أشكالاً متعددة من قبل العاملين مثل عدم حضور الموظف لأداء عمله، او حضوره شكلياً لغرض التوقيع في سجل الحضور والانصراف ثم الخروج والعودة في اليوم الذي يليه، وحتى احياناً في حالة تواجده اثناء الدوام قد لا يؤدي الموظف عملاً منتجاً يخدم أهداف المؤسسة وذلك بسبب اضاعة الوقت في التحرك والتجول بين مكاتب المؤسسة لأغراض لا تمت بصلة لعمل المؤسسة أو لأغراض شخصية بعيداً عن الاحساس بالمسؤولية التي هي أمانة عظيمة امام الله والضمير الانساني. إضافة الى سلوكيات يمارسها الموظفون لا تنسجم مع أخلاقيات الوظيفة تظهر في استخدام اساليب الخداع والاعذار غير المشروعة، شعوراً منهم بأن الوظيفة والراتب الذي يتحقق منها هو حق مكتسب، ولا يمتان بصلة في تحمل المسؤولية بأداء العمل، والرغبة في الحصول على الامتيازات والمكافئات وعدم تقبل أي عقوبة تطبق عليهم . وإن للتسيب مظاهر وصور أخرى تتمثل في سلوكيات وظيفية سلبية كالتهرب من اداء المهام والواجبات وعدم الاكتراث للمسؤولية الوظيفية وممارسة الوساطة غير المشروعة واستغلال الموقع الوظيفي بشكل غير نزيه ومنصف بهدف تحقيق اغراض ذاتية.
وعموماً كل هذه المظاهر ومظاهر أخرى تكون لها آثارها السلبية على تطوير عمل المؤسسة وأداءها وتحقيق أهدافها ونموها .