لطالما قرعتُ ناقوس الخطر محذراً من أزمة اقتصادية كبيرة قد تضرب الصعيد العالمي بحلول عام 2020. وخلافا لبعض تحليلات الخبراء، لدي سبب وجيه للاعتقاد بأن الأزمة الجديدة ستكون مدمرة أكثر بكثير من عام 2008، التي وصفها بن برنانكي، رئيس المجلس الاحتياطي الفدرالي(بنك الولايات المتحدة المركزي) وقتها بأنها «أسوأ أزمة مالية على المستوى العالمي». وعلى الأرجح، وكما حصل في السابق، سوف تبدأ هذه الأزمة في الولايات المتحدة.
من المتوقع أن تستمر الضائقة الاقتصادية الجديدة لسنوات وسيكون لها الأثر الكبير في الغرب، مسببة ركوداً كبيراً ومؤدية لإفلاس حوالي خمسة بلدان أوروبية. غير أن البلدان الناشئة بالمقابل مثل الصين والهند من المتوقع أن تنمو وتزدهر. الأزمة المالية التي اجتاحت العالم سنة 2008 تم احتواؤها تقريبا، لكن الأخطر والأدهى بكثير هي الأزمة الاقتصادية القادمة.
لقد شهدت الولايات المتحدة نمواً بنسبة 2.5 في المائة وعليه قد يظن أن توقع أزمة هو مجرد هراء وأن أميركا عادت فعلاً لاستئناف النمو. لكني أعتقد أن السبب وراء ذلك النمو كان ازدياد الطلب الاستهلاكي مع تراكم السيولة النقدية التي ضختها الحكومة الأميركية في أسواقها المالية والتي لا يصح أن تُعتبر مؤشراً للانتعاش. أميركا ومعها بقية العالم المتقدم متوجهة حثيثاً إلى أزمة هيكلية لأن التركيبة المالية في البلدان المتقدمة هي خاطئة أصلاً وتتفاقم بازدياد مع الأزمات المبادِرة جرّاء تحويل الديون الخاصة إلى حكوماتها المركزية، ما أضعف قدرات هذه الحكومات لتوفير الخدمات في التعليم والصحة، والعمالة، والرواتب التقاعدية إلخ. وما أدى لتزايد البطالة. هنا لا بد أن نستعرض أوضاعنا مع تنامي هذا السياق، وأن ندرك أننا نتبع نموذجاً متقلباً يفتقر إلى التجدد.
أضف إلى ذلك أن معدل التضخم في الولايات المتحدة مرشح للاستمرار في التصعيد. وأن نواتج معدلات الركود والبطالة والنمو المتأرجحة قد تدفع بالاحتياطي الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة على الدولار الأميركي. مثل هذه التدابير قد تؤدي إلى تفاقم الأوضاع أكثر فأكثر.
وفيما تنخفض الأسهم المالية ل1.5% هذا العام، بعد أن حققت ارتفاعات مذهلة في أوائل تشرين الأول/أكتوبر، تعاني صناديق الاحتياط أسوأ سنة منذ أزمة عام 2008، وترتفع الديون مؤخراً لرقم قياسي آخر بلغ ال 13.5 ترليون — أي بزيادة 837 بلیون عن الذروة السابقة التي سبقت «الكساد العظيم». وها نحن على الأرجح في «فقاعة ديون عالمية.» لقد حذّر جيم روجرز، الخبير في إدارة التمويل والمعلق الكبير، من الإنهيار القادم الذي وصفه ب»الأكبر في حياتي.» وإذا قمت بإضافة ديون القطاع الخاص أو مبلغ 6.2 تريليون إلى الدين العام، يصبح مجموع الديون «الوطنية الأميركية» 21.6 تريليوناً.
ومنذ أن باشر المجلس الاحتياطي الاتحادي طباعة النقود بداعي «التيسير الكمي» ليبعدنا عن الأزمة المالية الأخيرة، بدأت قيمة الأموال تتضاءل، وبدا أن أي أميركي يمتلك محفظة نقود وحساباً جارياً يمكنه إيهام الناس بثرائه عن طريق الإكثار من مظاهر الترف. لكن الحال برمته يتجه الآن في الوجهة المعاكسة. وينحو الفيديراليون اليوم إلى تضخيم القيم وبث الحذر في الأسواق بغية درء التضخم والعلل الأخرى المحتملة.
إن حجم الاقتصاد الأميركي الذي يشكل 25% من اقتصادات العالم يناهز حالياً ال20 تريليون دولار أميركي. لكنه كما قدمنا، تأتي «الديون الوطنية الأميركية» (21.6 تريليون) لتناهز فعلاً 107% من إجمالي الناتج المحلي. بالمقابل، يبلغ حجم الاقتصاد في الصين نصف الإقتصاد الأميركي فقط. لكنه إذا قوبل باحتساب تكافوء القوة الشرائية في الصين (PPP) يصبح الاقتصاد الأكبر على المستوى العالمي.
وعلى صعيد العالم، يبلغ مجموع الناتج القومي الإجمالي العالمي حوالي 80 تريليون دولار أميركي، فيما يناهز المبلغ الإجمالي لديون العالم 300 تريليون- وهي ليست حالة صحية في المطلق.
وعليه أتوقع أن خمسة بلدان أوروبية سوف تتعرض للإفلاس في العام المقبل، هذا لا يعني «إقفال دكاكينها،» لكنها ستشهد تراجعاً في قدراتها على توفير الخدمات للمواطنين. سوى أن دولاً مثل البرازيل، وروسيا، والهند، والصين وكوريا سوف تنمو بمعدلات ثابتة خلال السنوات العشر القادمة. وأعتقد أن أفريقيا، وخلال الفترة نفسها، ستكون على نفس مستوى البلدان المتقدمة من حيث النمو الاقتصادي لتصبح ما كانت عليه أوروبا منذ 50 عاماً. وستواصل اقتصادات المنطقة الخليجية وتيرة نموها الحالي بفضل عائداتها النفطية. لكنه إذا تم تصدير كل النفط اليوم فلن يكون ذلك في مصلحة البنى التحتية الموازية لمثيلاتها الأوروية. من أجل ذلك، لا بد من استثمار هذه الموارد المتاحة. ولا بد أن يستفيد العالم العربي برمته من الازدهار القائم في منطقة الخليج، وكما شهدنا، سوف تكون الاستثمارات في العالم العربي هي الأكثر أماناً. والأمثلة متعددة: عام 2014 بلغ الناتج المحلي الإجمالي في المملكة العربية السعودية 750 بليوناً، وفي الإمارات العربية المتحدة: 400 بليون، ما يعادل ناتجاً محلياً إجمالياً مشتركاً بواقع 1150 بلیون في عام 2004 وهذا أقل من 2 بالمائة من المجموع العالمي.
الأزمة المالية القادمة تتفاعل ببطء ولكن بثبات منذ سنوات عديدة، وحسب بنك الإستثمار الشهير جي بي مورغان، تبدو التوقعات بالنسبة لحدوثه الوشيك مُجَدوَلة لعام 2020 وفي الموعد نفسه للانتخابات الرئاسية الأميركية. وهناك العديد من المؤشرات التي يتبادلها الخبراء والاستراتيجيون كسبب رئيس لهذه الأزمة الوشيكة. ووفقا لأحد الأصوات الأكثر بروزاً بل الرائد في مجالات الاقتصاد والمال، نورييل روبيني أستاذ الاقتصاد في «كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك»، يأتي السبب الأول في توقيت الحافز المالي الأميركي الحالي والذي سيتم إيقاف مفاعيله عام 2020 حيث ينخفض النمو إلى أقل من 2%.
وفي مقال كتبه لصحيفة «فاينانشال تايمز»، قال: «عندما نأخذ في الإعتبار أن الحافز المالي الأميركي كان توقيته غير مناسب، كان لا بد أن يواصل المجلس الاحتياطي الفيديرالي منسوب الارتفاع إلى حوالي 3.5% بحلول أوائل عام 2020. وبالإضافة إلى الفيدرالي، لا شك أن البنوك المركزية الأخرى ستباشر أو تستأنف تطبيع مواقفها الإجرائية.»
والسبب الثاني الذي يستشهد به روبيني هو ما يسميه ‹»الاحتكاكات التجارية»› بين بلدان أميركا الشمالية Nafta والصين وأوروبا حيث يقول أنها «سوف تتزايد إلى ما يقارب حرباً تجارية واسعة النطاق» ويضيف أن «هذه الخلافات هي مجرد استعراضات تنافسية لما هو أعمق: الإستئثار بالريادة العالمية لتكنولوجيات المستقبل، أما تأثيراتها فسوف تتمظهر في تباطوء النمو وازدياد التضخم.»
السبب الثالث حسب نورييل سيكون عدم قدرة الصين على التعامل مع تباطؤ النمو. وبعد سنوات من تناميها الإقتصادي والتكنولوجي، سيكون التباطوء بمثابة صدمة للنظام. وستشكل توترات التجارة الأوروبية والقلاقل السياسية أسباباً موجبة لحلول الأزمة الوشيكة.
ورابعاً، يضيف نورييل، تأتي «ذبذبة أسعار الأصول». ويُعتقد أن «المستثمرين يتوقعون تراجعاً في هذه الأسعار عام 2020 سوف يستدعي إعادة تقييم للكثير من الأصول المترنحة حتى قبل منتصف عام 2019.»
من ناحية أخرى، ومع أن كبريات الشركات الأميركية الرقمية مثل جوجل وأمازون وموقع ئي باي (eBay) نجحت في توسيع وجودها دوليا (المنتجات والخدمات والمنصات الأساسية) لكنها جميعاً فشلت في الصين التي تعد أكبر سوق للرقميات في العالم.
ويمكن أن تكون الأسباب التالية قد ساهمت في هذا الفشل:
– الرقابة من جانب الحكومة الصينية
– التباينات الثقافية بين الصين والغرب
– العدد الكبير جداً من المنافسين المحليين
وتستشهد نشرة InsideView للأعمال بسبعة عوامل أخرى:
– الافتقار إلى فهم عميق (بما يكفي) للسوق الصينية
– سوء إدارة العلاقات مع المنظمين الصينيين والحكومة
– المحاولات الفاشلة لفرض نماذج أعمال تجارية عالمية لا تناسب السوق الصينية
– فشل مواجهة المنافسة الصينية الشرسة
– الإخفاق في ترسيخ علاقات فعالة مع الشركاء التجاريين المحليين
– فرض المنصات التكنولوجية المتقدمة المصممة لسوق الولايات المتحدة في الصين
– الهيكلية التنظيمية المركزية المفرطة والمؤدية إلى بطء اتخاذ القرارات
لكن المؤسسات التجارية الغربية لم تتخل بعد عن التعامل مع الصين… (نابوليون بونابرت قال يوماً: «الويل للعالم إذا تمدنت الصين»)
واسمحوا لي أيضا بسرد بعض التحديات التي قد تسبب مزيدا من الانزعاج، وقد تؤدي إلى إجراءات كارثية.
1-برنامج الطريق والحزام الصيني
2-عقوبات الولايات المتحدة
3-المنافسة على ريادة التكنولوجيا. (احتجاز هاواي/منغ)
4-المخالفات في طرق التجهيز.
5- ما يسمى بسياسات الفوضى الخلاقة. (عالميا)
6- نزاعات روسيا/أوكرانيا/أوروبا/الولايات المتحدة.
7-مبادرات العملات البديلة للدولار.
8-عرض تمرير الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر أوكرانيا.
9- البطالة العالمية (حاليا 2 مليار من الناس)
10- تقدم الصين على الولايات المتحدة في مجال الذكاء الإصطناعي ولبيانات الكبيرة.
11-الإعتماد الأميركي على المواهب الصينية
12-شركتا بوينغ وآبل تصنّعان في الصين!
وأخيراً، يشير نورييل إلى أن دونالد ترامب يشكّل عامل خطر رئيسي في الأزمة المقبلة. ويعتقد أن رده على تباطؤ النمو إلى أقل من 1% وارتفاع معدل البطالة خلال عام الانتخابات، هو تحويل الاهتمامات لأزمة سياسية خارجية بدلاً من التصدي لهذه المشكلة. ومع ذلك، يشرح نورييل، أنه باعتبار الولايات المتحدة هي فعلاً في حرب تجارية مع الصين ولا يمكنها مهاجمة كوريا الشمالية النووية، يبقى الهدف الوحيد المتاح افتعال مواجهة عسكرية مع إيران. ما سيثير صدمة جيوسياسية ذات آثار تضخّمية فادحة كما كان الحال في الأعوام 1973 و 1979 و 1990 حيث حصل الإرتفاع الحاد في أسعار النفط.»
منذ 10 سنوات، استخدمت الولايات المتحدة عملية شجّ الصخور أو fracking (الاسم الشائع للحصول على النفط والغاز من الأرض عن طريق حقن سائل بضغط مرتفع في بئر عادية). لكن العملية توقفت بحلول عام 2017 لعدم قابليتها للتطبيق؛ وبناء على ذلك، أصبحت الولايات المتحدة مستوردة للنفط العادي.
حُمّى الاقتصاد هذه، إلى جانب نقص النفط الأميركي المتوقع في أوائل عام 2020، ستدفع بأسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة قد تصل إلى 150 دولار للبرميل، ما سينعكس تضخمياً على الاقتصادات العالمية الرائدة. وعليه، سيرجع بنا التاريخ إلى الصدمة النفطية عام 1973. فهل العالم مستعد لمواجهة آثار الأزمة؟ وهل لدينا وسائل تنفيس كي نخفف من حدة الصدمة لهذا الحدث المحتمل؟
قلقي هو على مدى جهوزيتنا في بلدنا الأردن كي نتصدى لها. لدينا الآن الوقت الكافي، فلماذا لا نتحرك لتقييم هذه الحالة واستدراك آثارها المحتملة على اقتصادنا الهش واتخاذ التدابير الوقائية للحماية، أو على الأقل المبادرة للتخفيف من حدة الصدمة لهذه الأزمة.
يقول د. جواد عناني: «طلال أبوغزاله فتح أعيننا على هذا الحدث، أنا اتفق مع أبوغزاله في إنذاره المسبق. ونحن بحاجة إلى موقف عربي موحد في القمة العربية المقبلة، ليس فقط على الصعيد الإقليمي بل أيضاَ في كل مكان.»
ففي حال ثبوت صحة هذه التوقعات الكئيبة، سيتأثر الأردن سلباً، وبخاصة إذا استمر الوضع الحالي اللزج على حاله حتى عام 2020. ولكي ندعّم اقتصادنا ضد الآثار السيئة لمثل هذا الاحتمال، ينبغي أن نبدأ العمل منذ الآن.
نحن بحاجة إلى رؤية، وشجاعة، ومشاركة مجتمعية ناشطة عبر جميع المنظمات المدنية العامة والخاصة ومعها مجموع المواطنين لتحرك إيجابي متكامل التنظيم.
أنا أقوم بهذا وبكل ما وسعني، وأهيب بحكومتنا الموقرة لإيلاء هذا التحذير كل اهتمامها، وأن تخطط بكل جدية قبل أن يسبقنا الزمن.
ملاحظة: علينا ان نتذكر أنه هنالك رابحون وهنالك خاسرون في أوقات الحروب. بإمكاننا أن نكون رابحين اذا قررنا ان نتخذ الإجراءات اللازمة وأن نختار الخيارات الصحيحة.
الرأي