معجم الدّوحة التاريخي للغة العربية.. فتحٌ جديد

ظلّ وجودُ مُعجمٍ تاريخيٍّ للغة العربية يؤرخُ لألفاظها ويرصدُ تطورَ معانيها عبر رحلتها في الزمن حلمًا يراود الباحثين والدارسين في شتى التخصصات، لا سيما في مجال الدراسات اللسانية، ولئن كانت الأمم قد اهتمت بهذا النوع من المعاجم فأنشأ الإنجليز معجمًا تاريخيا لألفاظ لغتهم وكذلك فعل الفرنسيون والألمان والعبرانيون، فإنّ العربية أولى بهذا المعجم نظرًا لتاريخها الممتد لأكثرَ من عشرين قرنًا من الزمان.

 

وقبل الحديث عن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية نستعرض في عجالة التأليف المعجمي عند العرب، إذ بدأ التأليف المعجمي في مرحلة مبكرة من حركة التأليف عند العرب، إذ بدأ مرافقًا لعلوم التفسير، كان هدفه شرحَ ألفاظ القرآن الكريم ثم الحديث النبوي، لا سيما غريبَ هذه الألفاظ، ثم شرع العلماء بتفسير ألفاظ اللغة التي تشكلُ مادّةَ النصوص الأدبية التي يحفظونها أو يروونها شعرًا ونثرًا، فأنتجوا معاجم لغوية متخصصة في نوع من الألفاظ، فبنَوا معجمًا للألفاظ الخاصة بالإبل وآخر للألفاظ الخاصة بالمطر وثالثًا خاصا بالألفاظ المتضادة…وهكذا، مما شكل نواة ورصيدًا لغزيًا ضخمًا لبناء معجم لغوي متكامل يضم كل ألفاظ اللغة، وهذا ما نهض به الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجمه العين، ليكونَ أوَّلَ معجمٍ لغويٍّ شامل، ثم توالى تأليفُ المعجمات بعد ذلك كالجمهرة والبارع وتهذيب اللغة والصِّحاح والقاموس المحيط ولسان العرب وتاج العروس وعشرات المعجمات غيرها، وكانت المنهجية العلمية في تفسير الألفاظ واحدةً إلى حدٍّ بعيد في كل هذه المعاجم، يختلف أحدها عن الآخر في طريقة ترتيب المداخل المعجمية، أو في استدراك لفظ جديد أو معنى جديد.

 

ويؤخذ على هذه المعاجم أنها كانت تفسر اللفظ مبتورًا عن سياقه الاستعمالي في الغالب، كما أنها تضع المعاني المختلفة للفظ الواحد جملة واحدة، حتى يبدو للقارئ كأن هذه المعاني الكثيرة استعملت في زمن واحد، وتولدت من رحم بيئة واحدة، هذا علاوة على عدم استقصائها لكل ألفاظ اللغة، إذ توقفت باللغة عند زمن معين لم تجاوزه.

 

لذلك يعاني الباحثون اليوم ولا سيما الباحثين وفق المنهج التاريخي في رصد تطورات اللفظ العربي من حيث مبناه ومعناه، ومعرفة المراحل التي مر بها نشوءًا وتطوّرًا أو موتًا واندثارًا، وطالما شكا هؤلاء الباحثون من عدم وجود معجم تاريخيٍّ للغة العربية يتكئون عليه في أبحاثهم ودراساتهم، لذلك لا نبالغ إذا قلنا إنّ البحث في تطور دلالات ألفاظ العربية كان يعتمد على أدوات ضعيفة في العالم العربي.

 

من هنا ظهرت الحاجة ملحّةً لإنشاء معجم تاريخيٍّ للغة العربية على غرار ما في اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية واللغة الألمانية وغيرها من اللغات، معجم يتضمن ذاكرةَ كلِّ لفظ من ألفاظ العربية، ويسجل تاريخَ استعماله بدلالته الأولى، وتحوّلات استعمالاته، مع توثيق هذه الذاكرة بالنصوص التي تشهد على صحة الاستعمال.

 

فبدأت فكرة إنشاء هذا المعجم ومرت الفكرة في محاولات كثيرة بدأت من المستشرق الألماني فيشر ومجمع اللغة العربية المصري في عام 1932، ثم اتحاد المجامع اللغوية العربية، وظلت المحاولات تتكرر عبر الزمن، وعلى الرغم من أهمية ما أسهمت فيه هذه المحاولات من بناء للأسس النظيرة لبناء المعجم، لكنها لم تنجح لأسباب كثيرة، لعل أهما عدم توافر الدعم المالي وعدم وجود كادر بشري متناسق يسهل التواصل فيما بين أعضائه، إذ إن مثل هه المعاجم يحتاج إلى كادر بشري علمي من الباحثين والمختصين، ولا يمكن أن ينهض به فرد أو حتى مجموعة صغيرة من الباحثين.

 

وظلّ الأمر كذلك حتى تبنى الفكرة مركزُ الأبحاث ودراسة السياسات في دولة قطر في شهر أيار من عام 2013م، فوضعوا له خطّة محكمة، وقدروا له مدة من الزمن تصل إلى 15 سنة، على أن يتمّ إنجازه على مراحلَ، تبدأ المرحلة الأولى من مرحلة النقوش العربية وتنتهي عند العام 200 لهجرة، وشكّلوا له فُرقاءَ عملٍ من الباحثين والأكاديميين والخبراء في المجالين: اللغوي والتقني، حتى وصل العاملون فيه إلى 300 خبير، وبدعمٍ ماليٍّ كاملٍ من دولة قطر.

 

وما أن انتهت خمس السنوات الأولى حتى كانت المرحلة الأولى جاهزة على الشابكة، فوُلد معجم الدوحة التاريخي للغة العربية حاملًا نحوَ مئة ألف مدخل معجمي، تمّ إطلاقُ بوابته في احتفال رسمي في العاشر من كانون الأول لعام 2018، ليصبح بعدها معجم الدوحة التاريخي متاحًا للجميع.

 

وهذا المعجم سيفتح آفاقًا جديدة في الدرس اللغوي التاريخي التّتبّعي، فهو يرصد اللفظ ويبين معناه، ويذكر زمن استعماله مدعومًا بشاهد شعري أو نثري، مما صحّت روايته من التراث العربي، ويوثِّقُ مصدر الشاهد توثيقًا علميًّا دقيقًا، فهو يحمل ذاكرة الكلمات وذاكرة اللغة في كلِّ أزمانها.

 

لذا، وبناء على هذا المعجم سوف تؤكَّد حقائقُ، وتُنفى مُغالطاتٌ، وستُراجَعُ دراساتٌ، وتتغيرُ أفكار، وأضرب هنا مثالين مما يجول في الخاطر، الأوّل أنّ رمضان عبد التواب وهو أحد كبار علماء اللغة في العصر الحديث يرى أن الأصل في لفظة (الوغى) هو الدلالة على معنى اختلاط الأصوات، ثم تطور هذا المعنى وتغير ليدل على معنى الحرب، طبعًا ذكر رأيه هذا دون أن يشر إلى الزمن الذي استعمل فيه هذا اللفظ بالمعنى الأول، أو الزمن الذي استعمل فيه المعنى الثاني، وبالعَوْدِ إلى معجم الدوحة التاريخي يتبن لنا العكسُ تمامًا، إذ إنَّ أول نصٍّ وصل إلينا واستُعملتْ فيه لفظة الوغى كانت فيه تدل على معنى الحرب وذلك في 202 قبل الهجرة أي 426م وذلك في قول جذيمة بن وائل الشاكريّ:

 

نَقْتُلُ الأَقْرانَ في يَومِ الوَغى *** وَلَنا السَّاعِدُ منها والعَضُدْ

 

وأنّ استعمال الوغى بمعنى الصوت كان لاحقًا لذلك، إذ كان أول نص يحمل هذا المعنى في العام 85 قبل الهجرة أي 539م، وذلك في قول عمرو بن قُميئة البكري:

 

فَوَجَّهْتُهُنّ على مَهْمَهٍ *** قليلِ الوَغى غَيْرَ صَوتِ الرِّئالِ

 

فقد يكون المعنى في الأصل اختلاطَ الأصواتِ، ثم تطورَ ليدلَّ على معنى الحرب؛ لأنَّ الحرب مما تكثر فيها الأصوات، بل لعلَّ كثرة الأصوات من أبرز سمات الحرب السمعية.

 

أما المثال الثاني فيرى إبراهيم أنيس أنّ العرب في العصر الجاهلي وصدر الإسلام لم يكونوا يعبّرون عما نسميه اليومَ (لغة) إلا بكلمة لسان، والحقيقة غير ذلك في معجم الدوحة التاريخي، إذ نجد فيه شاهدًا لشاعر جاهليٍّ هو حاجز بن عوف الأزدي (ت 550م)، يقول في مدح القومَ الذين ابتدعوا الخطّ العربيّ:

 

ابتَدَعوا منطِقًا لخَطِّهمُ *** فتبيّنَ الخطُّ لَهجَةَ العربِ

 

فاستعمل الشاعر كلمة (لهجة) للدلالة على اللغة، وهذا وارد في معجم العين، لكنه يذكر المعنى دون زمن أو شاهد فيقول الخليل: «ويُقال: فصيح اللَّهْجَة واللَّهَجة، وهي لغته التي جُبِلَ عليها فاعتادها، ونشأ عليها». وهذا يعني أن العرب عبروا عن معنى(اللغة) بلفظين هما: اللهجة واللسان.

 

وهذا لا يعني أننا نُخطّئُ العالمَين والأستاذين الجليلين، لكنا نقول إن وجود معجم تاريخيّ للغة العربية يجعل مثل هذه المسائل قابلةً للنقاش وإعادة النظر.

 

وليس تقييدُ معاني الألفاظ بالزمن هي الميزةَ الوحيدةَ في معجم الدوحة التاريخي، بل إنه معجمٌ يعود باللفظ إلى أقدم ِاستعمالٍ له في مرحلة النقوشِ إذا توافر ذلك، تلك المرحلة التي لم تُعْنَ بها المعاجم العربية في الغالب، كما يربط الألفاظ العربية بنظيراتها في اللغات السامية، ويعيدُ الألفاظ المُقترَضَةَوالمُعَرّبَةَ إلى أصولِها، زدْ على ذلك أنه يرصد المصطلحات العلمية في مختلف العلوم والفنون، وعلى ذلك سيكون منهلًا عذبًا لكل الدارسين على اختلاف اختصاصاتهم وميولهم.

 

بقي أن نقول إن هذا المعجم كما جاء في مقدّمتِه سيمتدُّ ليشمل كلَّ ألفاظ اللغة العربية حتى وقتنا الحاضر، وسيكون معجمًا تفاعليًا، يأخذ من القارئ ويعطيه في حركة تبادلية تُسهم في اكتمال بنائه، وسيظل قابلًا للتغيير والتعديل كلما جدّت ألفاظ أو استجدّت معان.

 

فوفقًا لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية تستطيع أن تسافر مع اللفظ العربي في رحلته الطويلة عبر الزمن، وتتعرف إلى تغيُّره وتلوُّنه معنى ومبنى. معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربيّة فتحٌ جديد ٌعلى مستوى الأمة العربية، فقد شارك في بنائه علماءُ وباحثونَ من مختلف أقطار الوطن العربي، من قَطر والأردنّ ومصر وسوريا وفلسطين وموريتانيا والكويت والمغرب وتونس والجزائر والإمارات العربية والسعودية واليمن والعراق ولبنان وليبيا.

 

أظن أن الأجيال القادمة ستعدُّ هذا المعجم أعظمَ إنجازٍ للأمة العربية في القرن الحادي والعشرين. حقًا رُبَّ هِمّة أحيت أمة.